[size=5][font=Comic Sans MS][color=#FF1493]
وانا ايضاً عانيت وعثاء حياة المدينة: شعر جسدي بصعابها وامتصت روحي معاناتها. وقد شاهدت ايضاً ان التنقل السريع بين العمل والبطالة، وما ينتج عنه من تقلب اقتصادي، يدمر شعور الفرد باهمية الاقتصاد. بدا ان الجسد يعتاد على التبذير حين يتوفر المال، ويستحمل الجوع حين انعدامه. وبصراحة، ان الجوع يقضي على أي ارادة تسعى للتنظيم الاقتصادي حين يتوافر المال لانه يضع امام ضحيته المعذبة سراب الحياة السعيدة لدرجة ان الرغبات المريضة ستدمر أي قدرة على التحكم ساعة الوصول لاي موارد. وهكذا حين يصل الرجل للمال ينسى كل افكار تتعلق بالنظام والترتيب، ويعيش حياة البذخ ويسعى وراء اللذات الانية. وغالباً ما سيكون لهذا العامل زوجة واطفال وسيعتادون جميعاً على التبذير ثلاث ليال من الاسبوع، والجوع باقيه. وفي ساعات الظهيرة سيجلسون سوياً امام الصحون شبه الفارغة، منتظرين يوم وصول المرتب، متحدثين عنه، حالمين طوال ساعات الجوع بلذات التبذير.
وهكذا يعتاد الاطفال منذ طفولتهم على هذه الاوضاع السيئة.
وقد شاهدت هذه الاوضاع مئات المرات وتقززت منها اولاً، ثم فهمت حقيقة الماساة التي يعيشها هؤلاء الناس الذين باتوا ضحايا لظروف اجتماعية سيئة. وما كان اكثر بؤساً هو اوضاع السكن السيئة . بل انني اشعر بالغضب حتى هذه الساعة حين اتذكر الغرف الصغيرة والاكواخ الخشبية المحاطة بالقاذورات والاوساخ من كل جانب. وقد خشيت ذلك اليوم المرعب، حين سيخرج هؤلاء العبيد من اقفاصهم للانتقام من قسوة البشرية عليهم.
والمسؤولون والاثرياء يتركون الامور تسير على مجاريها: وبدون أي تفكير يفشلون حتى في الشك بان القدر يخطط للانتقام من هذا الجور. اما انا فعرفت ان تحسين هذه الاوضاع ممكن بطريقتين: فلابد من وجود احساس عميق بالمسؤولية لخلق اسس افضل للتقدم ، ومعه ارادة وحشية تدمر كل ما سيقف في طريقها ويعوق تقدمها. وكما لا تركز الطبيعة جهودها في الحفاظ على ما هو موجود، بل تسعى لخلق اجيال ستقبلية افضل، سيكون من الضروري صناعة قنوات جديدة اكثر صحية منذ البداية.
تجاربي المختلفة في فينا علمتني ان المشاريع الخيرية غير مفيدة ، والمطلوب تدمير الفوضى الاقتصادية التي تؤدي الى انحطاط الافراد الخلقي. بل ان عدم قدرتنا على استخدام الوحشية في الحرب ضد المجرمين الذين يهددون المجتمع سببها هو عدم تاكدنا من برائتنا التامة من الاسباب النفسية والاجتماعية لهذه الظواهر. شعورنا الجمعي بالذنب تجاه مآسي الانحطاط الاخلاقي يشل قدرتنا على اتخاذ اقل الخطوات قسوة في الدفاع عن مجتمعاتنا. وفقط حين نتحرر من سلطة عقدة الذنب هذه سنقدر على الوصول للقوة والوحشية والضروريين لتدمير الاعشاب الضارة والافكار المارقة.
وبما ان النمسا كانت عملياً بلا قانون اجتماعي صالح، لم تكن الدولة قادرة على التعامل مع هذه الامراض البتة.
ولا اعرف حتى الساعة ما ارعبني اكثر: هل كان سوء الاوضاع الاقتصادية لمن عرفت، ام انحطاطه الخلقي، ام الضعف الفكري؟
تصور مثلاً هذا المشهد: في شقة تتكون من حجرتين سكنت اسرة عامل تتكون من سبع اشخاص. بين الاطفال الخمسة، كان هناك طفل في الثالثة، وهو السن الذي تتكون خلاله انطباعات الفرد الاولى. هناك بعض الموهوبين الذين يتذكرون هذه الانطباعات حتى ارذل العمر. مجرد ضيق الشقة وازدحامها لا يؤدي لخلق ضروف صحية ونفسية ملائمة للنمو. قد تحدث مثلاً خلافات بسيطة بين افراد كل اسرة، وعادة يذهبون كل الى حجرة مختلفة، وينتهي الامر. اما في شقة صغيرة، فكل سيرى نفسه في مواجهة الاخرين طوال الوقت. بين الاطفال، الخلاف شيء طبيعي، وهم ينسون اسبابه بسرعة. ولكن ان شاهد الاطفال الابوين في حال خصام دائم، تستخدم خلاله الالفاظ النابية، وربما العنف، فستكون النتائج سلبية. سيتصور الطفل العالم بطريقة تخيف من يقدر على تصورها. فقد تم تسميممه اخلاقياً، وما تغذى جسده كما ينبغي. ومن ثم يذهب هذا المواطن الصغير الى المدرسة. بعد صراع مضن، قد يتعلم القراءة والكتابة، اما الواجب المنزلي، فانجازه مستحيل. بل ان والديه سيقذعان المدرسة بابشع الالفاظ. كل ما سيسمعه الطفل لن يعلمه احترام مجتمعه. سيكره المدرسين وكل انواع السلطة. وحين يُطرد من المدرسة بعد ذلك، سيلاحظ الناس غبائه، وجهله ، وكذلك سوء اخلاقه. أي موقع سيستطيع هذا الشاب االيافع لوصول اليه في ظروف مثل هذه؟ كل ما لديه هو كراهية المجتمع والبشرية. وبعد هذا، في سن الخامسة عشر، سيبدأ ذات الحياة التي عاشها والده، فيذهب للخانات، ويعود متاخراً لمنزله، وينتهي به الامر في السجن.
وكم من مرة غضب الرأسمالي اذ سمع العامل الفقير يقول انه لا يهتم سواء اكان المانياً ام لا، ما دام يجد الغذاء والكساء: فقدان الشعور القومي بهذه الطريقة فظيع. كم من الالمان في عصرنا يشعرون بالفخر ان تذكروا انجازات امتهم الثقافية والفنية؟ وهل يدرك المسؤولين ان الشعور بالفخر والعزة الوطنية لا يصل الا لقلة من افراد الشعب.
لذلك لا بد من تحسين الاوضاع المعيشية ومن ان يركز التعليم على قيم اساسية تتفشى في اذهان الناس عبر التكرار.
ولكن المانيا، بدلاً من الدفاع عن القيم القليلة الموجودة، تسعى لتدميرها. والفئران التي تبث سمومها في القلب والذاكرة تنجح في الوصول لغاياتها، بمساعدة الفقر والمعاناة: يوماً بعد يوم، في المسارح ودور السينما، نرى السم يُقذف على الجماهير، ثم يتحير الاثرياء عن اسباب انحطاط القيم الاخلاقية للفقراء، وانعدام الشعور الوطني بينهم.
قضية خلق الشعور الوطني اذاً تعتمد على توفير ظروف ملائمة لتعليم الافراد لان اولئك الذين يتعلمون عن طريق الاسرة والمدرسة فقط هم الذين سيستطيعون تقدير الانجازات الثقافية والاقتصادية والسياسية لوطنهم لدرحة الانتماء لذلك الوطن. استطيع ان احارب فقط من اجل ما احب، واحب فقط ما احترمه، واحترم على الاقل ما اعرفه.
ومع ازدياد اهتمامي بالقضايا الاجتماعية ، بدات اقرء المزيد عنها ، وفتح عالم جديد ابوابه لي.
( 2 )
خلال الاعوام 1900 -1910 تغيرت اوضاعي لانني ما عدت اعمل كعامل ، بل بدات العمل كخطاط وراسم بالالوان المائية. ومع ان المال ما كان كافياً ، الا انه كفى لتحقيق طموحي آنذاك. اذ استطعت الرجوع للمنزل وانا قادر على القراءة بدون ان يدفعني التعب من عمل اليوم للنوم فوراً. بات بعض وقتي ملكاً لي.
تصور الكثيرون انني غير طبيعي : ولكنني تابعت ما اعشق، الموسيقى والعمران. كنت اجد في الرسم والقراءة كل اللذات وسهرت كثيراً حتى الصباح مع لوحة او كتاب. وهكذا كبرت طموحاتي، وحلمت بان المستقبل سيحقق امالي، وان بعد حين. كذلك تابعت قضايا السياسة وقرات المزيد عنها لانني ارى ان التفكير في شؤونها وظيفة تقع على عاتق كل مواطن يفكر. وبدون معرفة شيء عن طبيعتها لا يحق للفرد النقد او الشكوى.
ما اعنيه بالقراءة يختلف عا يقوله دعاة الثقافة في عصرنا. فقد عرفت رجالاً قراوا كثيراً ، ولكنه ما كانوا مثتقفين. نعم، هم عرفوا الكثير من المعلومات، ولكنهم ا استطاعوا تسجيلها وتنظيمها. وهكذا افتقدوا فن تمحيص القيم من الغث، والتحرر مما كان بلا فائدة، والاحتفاط بالمفيد معهم طول العمر. فالقراءة ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الغايات. وظيفتها الاساسية هي ملأ الفراغ المحيط بالمواهب والقدرات الطبيعية للافراد. المفروض هو ان نقدم للفرد المعدات التي يحتاجها لعمله الحياتي بغض النظر عن طبيعة هذا العمل. كذلك، يجدر بالقراءة ان تقدم رؤية معينة للوجود. وفي كلا الحالين، الضروري هو الا تتحول محتويات الكتاب الى الذاكرة بجوار كتب لاحقة، بل ان توضع العلومة المفيدة بجوار غيرها لتوضيح الرؤية الاساسية في فكر القاريء. وان لم يحدث هذا، ستتجمع المعلومات بشكل فوضوي في الذهن، بلا قيمة سوى خلق الكبرياء. فالقاريء من هذا النوع سيتصور انه قد عرف المزيد ، وان كان في الواقع يبتعد اكثر فاكثر عن الواقع حتى ينتهي المطاف به في مستشفى المجانين.. او مجلس الشعب، وهو ما يحدث كثيرا. وهو لن يستطيع اذاً الاستفادة مما قراه.
اما القاريء الناجح، فيستطيع بسرعة ادراك ما سيستفيد منه وترك الباقي. المعلومة المفيدة ستصحح الاخطاء، وتوضح الصورة الكلية. ثم، حين تضع الحياة سؤالاً امام القاريء، ستعرف ذاكرته كيف تجلب الاجزاء المطلوبة للاجابة، وتقدمها للعقل حتى يختبرها ويتحقق بشانها، حتى تتم الاجابة على السؤال. وهذه هي القراءة المفيدة. ومنذ صباي حاولت القرائة بهذا الاسلوب، وفي هذا المسعى عاونني الذكاء والذاكرة. اما تجارب الحياة اليومية فقد دفعتني لقراءة المزيد والتفكر بشانه. وفي هذا السعى عاونني الذكاء والتجارب. وهكذا وجدتني اخيراً قادراً على الربط بين النظرية والواقع ، وعلى اختبار النظرية في ظل الواقع، ونجوت بهذه الطريقة من الكبت الذي تخلقه النظرية لمن لا يعرف سواها، ومن التفاهة التي يحياها من لا يعرف سوى الواقع اليومي المعاش.
خلال تلك المرحلة دفعتني تجارب الحياة الى دراسة سؤالين آخرين، كانت الماركسية احدها. فما عرفته عن الفكر الديمقراطي كان قليلاً وغير دقيق. آنذاك، اسعدتني فكرة الصراع من اجل حقوق الانتخاب. فحتى في ذلك الزمن الباكر، ادركت بان هذا سيضعف من سطوة السلطة الجائرة في المنسا. وكلما زادت اللغات المستخدمة في مجلس الشعب النمساوي الذي بات مثل – بابل – بدا تشتت تلك الدولة الحتمي وشيكاً ، ومعه ساعة تحرر الشعب الالماني.
نتيجة لكل هذا، لم اتضايق من حركات الديمقراطية الاجتماعية. بل ان ادعائاتها بمساعدة الطبقات الفقيرة بدت لي من العوامل التي وقفت في صفها. ولكني رفضت في هذه الحركات عدائها لكل محاولات المحافظة على الشخصية الالمانية، ومغازلتها "للرفاق السلاف"، الذين ما تقبلوا من افكارها الا ما سيستفيدوا منه، وتركوا الباقي باحتقار تام.
حدث لقائي الاول مع هذه الحركات خلال عملي كعامل بناء.
وكانت التجربة سيئة منذ البداية: كانت ثيابي نظيفة، ولغتي جيدة، وسلوكي حذراً. كنت لا ازال اسعى وراء مصيري لدرجة تجاهل الناس حولي. بحثت عن العمل فقط خوفاً من الجوع، وللاستمرار في الدراسة. ربما ما كانت القضية ستهمني البتة لو لم يطلبوا مني في اليوم لرابع الانضمام لتجمعهم. ونظراً لجهلي بالموضوع، رفضت موضحاً انني لا اعرف ما يكفي عنهم للانضمام اليهم. ربما لهذا السبب لم يعادونني ، بل ورغبوا في اقناعي بالانضمام الى صفوفهم. ولكنني خلال الاسبوعين القادمين عرفت افكارهم جيداً، وما عاد باستطاعتي البتة الانضمام لمجموعة بغضتها.
ساعة الظهيرة حين كنا نتناول الطعام في الحانة: كنت اشرب الحليب وآكل الخبر في زاوية متطلعاً لهم بحذر او متاملاً حظي السيء. وهكذا استمعت لهم، بل انهم جاءوا بجواري حتى استمع واتخذ موقفاً. وما كان امامي منفذ آخر لان ارائهم اغضبتني جداً: قالوا ان الحس الوطني نتج عن اعلام الطبقات الراسمالية، وانه عبارة عن سلاح يستخدمه الاثرياء لاستغلال العمال، والمدرسة ليست سوى مؤسسة لانتاج العبيد واسيادهم، اما الدين فادعوا انه اسلوب لتخدير الشعوب حتى تسهل السيطرة عليهم، والاخلاق ليست سوى دلالة على الغباء. ما كان هناك ما لم يلقونه في الوحل. في البداية لذت بالصمت، ولكنني سرعان ما بدأت باتخاذ مواقف فكرية مخالفة، وقرأت فكرهم وناقشتهم بشانه. واستمر النقاش حتى قرروا استخدام سلاح يقهر العقل بسهولة: وهو البطش والارهاب. وهكذا طلبوا مني الذهاب وهددوني بانهم سيلقونني في لخارج ان رفضت. وهكذا خسرت عملي، وفي نفسي سؤال مرير: هل هؤلاء فعلاً بشر؟ وهل يستحقون شرف الانتماء لامة عظيمة؟ وكان السؤال صعباً. وان كانت اجابته بالايجاب، فان الصراع في سبيل القومية لن يستحق التضحية والمعاناة، اما ان كانت الاجابة بالنفي، فان امتي ستفتقر بالفعل للانسان.
ماشاااء الله عليك مو مقصررررررررررر
مجهوودك مميز
يسلموو شاادي