إن سياسة استثمار المال، وطرق تنميته أصبحتا الآن مشكلة يواجهها الناس في هذه الأيام ، وفي هذا العصر الذي انتشرت فيه المصارف والبنوك، وبيوت المال التي تتعامل بالفائدة، فقد تم لها السيطرة الكاملة على مقدرات اقتصاد العالم الإسلامي في النظام المالي، فهي التي تتحكم في سياسة المال والاقتصاد، وتوجهه الوجهة التي تراها مناسبة لها حسب خطتها مما أثر تأثيرا سلبيا، وجعل المسلم الذي يتمسك بدينه يعيش في أزمة نفسية وروحية تجعله لا يدري كيف يتصرف، ولا ماذا يفعل في الخروج من هذه المشكلة، فهو يتعامل بالربا عن طريق هذه البنوك رضي أو كره، فكيف يتسنى له أن يوفق بين أمور معيشته ومقتضيات دينه في عصر قد اختلط فيه الحرام بالحلال.
ولكن الله تعالى رحيم بعباده، فما من مشكلة وإلا ولها في الإسلام حل مناسب، قال تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } (1) . والفقه الإسلامي بما اشتمل عليه من حيوية ومرونة وغنى كنوزه، قادر على أن يواجه الصعاب ويحل المشكلات، وفي استطاعته كذلك أن يعطي الحوادث المتجددة ما يناسبها من أحكام ، ويخصص لكل حادثة حكما مستمدا من كتاب الله تعالى. وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو مستنبطا من روح التشريع ومقاصده وأسراره (2).
وعلما المسلمين قد أفرغوا وسعهم وأعملوا ذهنهم، فاجتهدوا لعصرهم ولما بعد عصرهم، وتوصلوا إلى كثير من الحلول التي ترفع الحرج عن الناس من خلال ما وضعوه من القواعد والضوابط التي لا غنى عنها في أي عصر من العصور مثل:
ـ المشقة تجلب التيسير
ـ العادة محكمة
ـ إذا ضاق الأمر اتسع
ـ الضرورات تبيح المحظورات
وانطلاقا من هذه القواعد وغيرها، فإن علماء المسلمين رخصوا في أكل الحرام إذا عم القطر كله، ولم يوجد مال حلال ، فإذا لم يوجد مال حلال، فعلى المسلم أن يأخذ من الحرام بقدر حاجته، ولا يقتصر على قدر الضرورة .
قال السيوطي : "وفي ذلك سر عظيم، لأنه لو عم الحرام، ومنعنا الناس من تناوله، لألحقنا بهم مشقات عظيمة ، في المأكل والمشرب والملبس وغيرها، ولأنه لو اقتصر الناس على الأخذ بقدر الضرورة لأدى إلى ضعف العباد، واستيلاء أهل الكفر والعناد على بلاد الإسلام " (3).
والمشقات إذا تنوعت نزلت منزلة الضرورة ، فتأخذ حكمها ، وأما إذا وجد الحرام في بعض البلاد، فإنه من الأحوط دينا أن يسعى المسلم مهاجرا إلى البلاد التي فيها حلال، فيكلف الذهاب إليها، ولا يجوز له أن يأخذ من طعام بلده التي عم فيها الحرام (4).
وإذا طبقنا هذا الحكم على ما يجري الآن في المجتمعات الإسلامية، فيما يتعلق بسياسة المال التي تجري في المصارف والبنوك، فإننا نجد لدينا نوعين من هذه المصارف.
النوع الأول : بنوك تتعامل بسعر الفائدة، وهي الأكثر انتشارا.
والنوع الثاني : بنوك لا تتعامل بسعر الفائدة ، وتتحرى بقدر الإمكان أن تكون معاملاتها شرعية ، وهي البنوك الإسلامية أو المصارف الإسلامية، كما يسميها بعضهم ، وهذه البنوك هي بالنسبة إلى المسلم طوق النجاة، لأنها جاءت تلبية لمتطلبات المجتمع المسلم المعاصر، وفوق ذلك، فإن هذه المؤسسات تضطلع بمهمة إثبات صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان ، والأكثر من ذلك فإن هذه المؤسسات هي الدليل الحاسم على اقتداره على حمل البشرية إلى بر السلام، والإزدهار، والأمان، كما يمليه قول الله تعالى : { فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } (5)، وقوله تعالى لآدم وحواء ـ وهو المنهج الذي رسمه القرآن لمن بعدهما { قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } (6).
وإن كل مسلم في أي بقعة من أرض الله ، يبارك هذه البنوك، ويساندها حتى تنهض، لتؤدي دورها، طبقا لتعاليم الإسلام وقواعده ليكون الجهاز المصرفي خاضعا لمنهج الإسلام الذي لا يخضع لسعر الفائدة .
ولكي يكون هذا المنهج واضحا في الأذهان، فإنه يتحتم علينا أن نلخص ذلك المنهج في الخطوات التالية :
أولا: تحريم التعامل بالربا : ـ
والقاعدة الأساسية في بيان حقيقة الربا .. أن كل قرض جر نفعا فهو ربا .. والإسلام في تحريمه للربا يقصد إلى بناء اقتصاد فاضل ، فرأس المال لا يعمل وحده، وأنه لا كسب من غير تعرض للخسارة ، وأن النظام الربوي يفرض مكسبا لرأس المال من غير عمل قط ، ومن غير تعرض للخسارة قط إلا أن الإسلام لم يبح أن يأخذ التاجر أو الصانع المقدار من المال، ويدفع الربا بقدر معلوم، خسر أو كسب (7) .
ثانيا : تقرير العمل ، ليكون مصدرا للكسب : ـ
فإنه إذا كان المال لا يلد المال .. فلابد أن يكون العمل هو البديل عن اعتبار المال مصدرا وحيدا لكسب المال.. ويعني هذا توجيه الجهد نحو التنمية والاستثمار عن طريق عقود المعاملات الشرعية كالمضاربة والمشاركة في رأس المال، والمشاركات المنتهية بالتمليك، والمرابحة، وبيع السلم وغيرها، فهي التي تراعي الواقع وحاجة التطور بدلا من سعر الفائدة التي تنفصل عن واقع النشاط الاقتصادي وإنجازاته الحقيقية (8).
ثالثا : البعد عن شرط الأسد وتقرير بطلانه : ـ
وشرط الأسد هو ذلك الشرط الجائر الذي يضمن الكسب لطرف دون طرف وهذا الشرط ينافي العدل ويحقق الظلم ، فإن تحديد مقدار معين مسبق من ربح الاستثمار بنسبة معينة من رأس المال لا يحقق العدالة ، فقد يكون مساويا لما تم تحديده، وقد يكون دونه ، فكان إعطاء هذا المقدار المحدد لطرف يمثل تمييزا له على حساب شريكه ، وهذا ما يسمى بشرط الأسد.
من أجل ذلك اختلف الفقهاء فيما إذا كان اقتسام الربح حسب حصص رأس المال أو حسب الاتفاق .. وكان هذا الاختلاف فيما هو أعدل فالأحناف والحنابلة يرون جواز التفاضل في الربح حسب الاتفاق .
والشافعية ، وأهل الظاهر على القول بتساوي الربح مع حصة رأس المال(9).
رابعا : تصحيح وظيفة رأس المال في المجتمع : ـ
وذلك يعني ربط التنمية الاقتصادية بالتنمية الاجتماعية ، ومن هنا يبرز نظام الزكاة في مصارفها، ومدى أهميتها الوظيفية الاجتماعية، فيكون الاستثمار لتحقيق واجب العبادة، وأداء وظيفة الخلافة، والاهتمام بالنواحي الاجتماعية ، وذلك أصل من أصول الإسلام، دعا إليه القرآن الكريم ، في قوله تعالى : { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة وأحسن كما أحسن الله إليك } (10) .
الأمر الذي يمكن معه القول إن المسلمين في سلوكهم الاقتصادي واستثمارهم المال لا تحكمهم الرغبة في الإشباع المادي فقط، وإنما قبل ذلك يحكمهم سلوك التزامهم الديني بطاعة الله عز وجل، وعدم عصيانه ، بالحصول على نصيبهم العادل ثم الإحسان إلى الآخرين ، وعدم الإفساد في الأرض (11).
خامسا : التمويل وطرق استثمار المال : ـ
الأصل في مجال استثمار المال، وطرق تنميته أن الشخص إذا كان يعمل فيه بنفسه فهو الذي يحصل على منافعه ، وهو الذي يتحمل مخاطره وضمانه، فيكون خراجه أي منافعه وضمانه عليه وحده، أما إذا سلمه إلى شخص آخر لاستثماره أو ليتصرف فيه كيفما شاء ، فإن هذا المال يدخل في ضمان الشخص المستلم لهذا المال لأن حق صاحب المال في ذمة هذا الشخص، فتكون له منافعه وعليه ضمانه، طالما أن المالك لا سلطان له على استثمار المال، فإذا هلك ضمنه لصاحب المال مهما كانت الظروف، وهذا ما ينطبق على القرض، والديون، والائتمان بكل صوره وأشكاله .
وأما إذا نقل قدرته المالية إلى شخص وظلت له سلطة على استعماله، ففي هذه الحالة يتمل نصيبا من المخاطر بقدر المال الذي سلمه ويكون له في مقابل ذلك عائد من الربح .. وهذا ما يحدث في الشركات ، وذلك تخريجا على القاعدة التي تقول: الخراج بالضمان (12).
وبناء على هذه القاعدة .. فإن البنك يضمن الودائع للمودعين، والمقترضون من البنك، يضمنون قيمة القروض ، ومن ثم فلا يستحق البنك عائدا على القروض، ولا تلزمه فائدة أصحاب الودائع .
إذا أراد المودع أن يأخذ عائدا ، فليتحمل المخاطر الناتجة عن استخدام البنك لهذه الودائع ، وإذا أراد البنك أن يأخذ عائدا ممن قدم له التمويل، فليتحمل المخاطر، وكل هذا لا يتأتى إلا في إطار المشاركات التي يتحمل فيها كل طرف جزءا من المخاطر ، مقابل حصوله على المنافع، عملا بقاعدة الخراج بالضمان، ومعناها ربط استحقاق الإيراد أو الربح ـ وهو الخراج ـ بتبعة أو تحمل الهلاك للمال سواء أكان الهلاك بتلف أو خسارة .
ولا يقال في تبرير الفائدة، إن العادة جرت بذلك ،والعادة محكمة كما لا يقال: إن ذلك من قبيل الشرط القائم بين المتعاقدين ، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا .. لأن العرف لا يؤخذ به إذا تعارض مع الشرع، فلا يلتفت إليه ولا يعمل به شرعا.
ولا يقال : إن مخاطر البنك قليلة أو هي معدومة، أو يمكن إذا وجدت أن تغطي من المخصصات وتنوع الاستخدام .. لا يقال ذلك لأن الواقع العملي أثبت حدوث مخاطر جسيمة للبنك ، وبشكل حاد.. فقد لا يحقق البنك في كل الأحوال معدل الفوائد المطلوبة للمودعين ، إضافة إلى ذلك مخاطر عدم السداد، ومخاطر الاستيلاء على أموال البنوك ، وهي ظاهرة موجودة في قائمة هذه الأيام .
ومن أجل ذلك يتحتم البعد عن العمليات الربوية بالمشاركات في الغنم والغرم، فهو البديل الشرعي عن الغنم المضمون المتمثل في سعر الفائدة الثابتة، وعلى البنوك غير الإسلامية ، أن تعدل من نظامها في المستقبل، فذلك فيه صلاح للفرد ، وللمجتمع، وفيه بعد عن مخاطر الربا الذي نهى الله عنه بقوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } (13).
========
الهوامش:
========
1ـ سورة الحج الآية 78
2ـ موقف الشريعة من المصارف الإسلامية المعاصرة تأليف الدكتور عبد الله عبد
الرحيم العبادي ، طبع بيروت ، ص 5
3ـ الأشباه والنظائر للسيوطي ، ص 96 ، وما بعدها
4ـ قواعد الأنام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام 2/188
5ـ سورة قريش الآية : 4
6ـ سورة طه الآية : 123
7ـ بحوث في الربا للشيخ محمد أبي زهرة ص 38
8ـ موقف الشريعة الإسلامية من المصارف الإسلامية المعاصـرة للدكــــتور عبد الله عبد الرحيم العبادي ، ص 172 وما بعدها
9ـ بدائع الصنائع 6/62 ، شرح الزرقاني 6/48 ، فتح العزيز 10/434، المغني والشرح الكبير 5/47، المحلى 8/144
10ـ سورة القصص الآية / 77
11ـ القواعد الشرعية وتطبيقاتها على المعاملات المالية المعاصرة ، إعداد الدكتور محمد عبد الحليم عمر ، ص 5
12ـ الأشباه والنظائر للسيوطي ، ص 150
13ـ سورة البقرة الآيتان : 278 ، 279
منقول
وبارك الله فيك على هذا النقل
وجزاك خير
تحيتي
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك … لك مني أجمل تحية .
جزآآك الله الف خير..
تحيتي.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
|
آسٌِِّـِِّلآمً
|
نورتى الطرح بحضورك الراقى
باركــــ الله فيك اخوي
اسلام ماقصرت
يعطيك العافيه على النقله
لا تحرمنا جديدك
تحيتي