تابع لموضوع اعرف نبيك
وأما موطنه عليه الصلاة والسلام:
فقد اختار الله له من بقاع العالم ومن بين أصقاعها أحبّ البلاد إليه سبحانه، البلد الحرام، والتربة الطاهرة، والأرض المقدسة، والوطن المحاط بالعناية المحروس بالرعايةن فولد صلى الله عليه وسلم في مكة حيث صلى الأنبياء، وتهجّد المرسلون، وهبط الوحي، وطلع النور، وأشرقت الرسالة، وسطعت النبوة، وانبلج فجر البعثة، وحيث البيت العتيق، والعهد الوثيق، والحب العميق، فمكة مسقط رأس المعصوم، وفيها مهد طفولته، وملاعب صباه، ومعاهد شبابه، ومراتع فتوّته، ورياض أنسه.
بلادٌ نيطت عليّ تمائمي
وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها
ففيها رضع لبن الطهر، ورشف ماء النبل، وحسا ينبوع الفضيلة، وفيها درج، ودخل وخرج، وطلع وولج، فهي وطنه الأول، بأبي هو وأمي، وهي بلدته العزيزة الى فؤاده، الحبيبة الى قلبه، الأثيرة الى روحه بنفسي هو.
وحبّب أوطان الرجال إليهم
معاهد قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمو
عهود الصبا منها فحنّوا لذالكا
فهناك في مكة صنع ملحمته الكبرى، وبثّ دعوته العظمى، وأرسل للعالمين خطابه الحارّ الصادق، وبعث لأهل الأرض رسالته المشرقة الساطعة، حتى إنه لما أخرج من مكة ودّعها وداع الأوفياء وفارقها وما كاد يتحمّل هذا الفراق:{ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2) } البلد.
محمد صلى الله عليه وسلم طفلا:
فإن الطهر ولد معه والبِشر صاحبه، والتوفيق رافقه، فهو طفل لكن لا كالأطفال، براءة في نجابة، وذكاء مع زكاء، وفطنه مع عناية،، فعين الرعاية تلاحظه، ويد الحفظ تعاونه، وأغضان الولاية تظلله، فهو هالة النور بين الأطفال، حفظه الله من الرعونة ومن كل خلق رديء ووصف مقيت ومذهب سيء، لأنه من ثغره مرشح لإصلاح العالم، مهيأ لإسعاد البشرية، معدّ بعناية لاخراج الناس من الظلمات الى التور، فهو الرجل لكن النبي، والإنسان لكن الرسول، والعبد لكن المعصوم، والبشر لكن الموحى إليه.
محمد صلى الله عليه وسلم ليس زعيما فحسب، لأن الزعماء عدد شعر الرأس، لهم طموحات من العلوم ومقاصد من الرئاسة ومآرب من الدنيا، أما هو فصالح مصلح، هادٍ مهدي، معه كتاب سنة، ونور وهدى، وعلم نافع وعمل صالح، فهو لصلاح الدنيا والآخرة، ولسعادة الروح والجسد.
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس عالما فحسب، بل يعلّم بإذن الله العلماء، ويفقه الفقهاء، ويرشد الخطباء، ويهدي الحكماء، ويدل الناس الى الصواب { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(52) } الشورى.
فكلهم من رسول الله ملتمسٌ
غرفاً من البحر أو رشفاً من اليمّ
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس ملكا يبسط سلطانه وينشر جنوده وأعوانه، بل إمام معصوم ونبي نرسل، وبشير ونذير لكل ملك ومملوك، وحر وعبد، وغني وفقير، وأبيض وأسود، وعربي وعجمي { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) } الأنبياء، ويقول عليه الصلاة والسلام:" والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". أخرجه مسلم 153 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأما شبابه، فهو زينة الشباب وجمال الفتيان، عفة ومروءة وعقلا وأمانة وفصاحة، لم يكن يكذب كذبة واحدة، ولم تعلم له عثرة واحدة ولا زلة واحدة ولا منقصة واحدة، فهو طاهر الإزار مأمون الدخيلة، زاكي السر والعلن، وقور المقام، محترم الجانب، أريحيّ الأخلاق، عذب السجايا، صادق المنطق، عفّ الخصال، حسن الخلال.
لم يستطع أعداؤه حفظ زلة عليه مع شدة عداوتهم وعظيم مكرهم وضراوة حقدهم، بل لم يعثروا في ملف خلقه الكريم على ما يعيب، بل وجدوا والحمد لله كل ما غاظهم من نبل الهمة ونظافة السجل، وطهر في السيرة، وجدوا الصدق الذي يباهي سناء الشمس، ووجدوا الطهر الذي يتطهر به ماء الغمام، فهو بنفس الغاية في كل خلق شريف وفي كل مذهب عفيف، فكان في عنفوان شبابه مستودع الأمانات ومردّ الآراء ومرجع المحاكمات ومضرب المثل في البرّ والسموّ والرشد والفصاحة {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4) } القلم.
يبع يوم غدا