كان ظهور الصحافة في العالم العربي حدثا مميزا و تغيرا مشهودا , تشكلت على إثره مرحلة جديدة من مراحل الفكر العربي و قوالبه اللفظية و الأدبية , و الصحافة من أبرز عناصر عصر النهضة العربية و التطور الذي أحدثته .. إذ كانت تضطلع بدور مهم و تؤدي رسالة كبيرة صار لها أصداؤها المترددة في مناحي الثقافة العربية جمعاء .. كما أنها تمت بسبب وثيق إلى عوامل النهضة الأخرى كالطباعة و الترجمة التي هي أول ما بشرت بها الصحافة و فاجأت الجمهور حين كانت تترجم القصص الغربية و تنشرها فيتلقفها القراء العرب في شتى مشاربهم .. و لا بد لنا قبل أن نشرع في تتبع أثر ( الصحافة ) في التطور الكتابي آنذاك , أن نشير إشارات مجردة إلى نشأة الصحافة و بداياتها الأولى ..
الصحيفة الأولى : بدأت الصحافة العربية بصحيفة ( الوقائع ) المصرية , التي أنشأها الأمير محمد علي سنة 1828 م بمعاونة الأستاذ رفاعة بك الطهطاوي ( تاريخ الادب 315 ) .. و كانت تصدر أولا بالتركية و العربية , ثم بعد ذلك حررت بالعربية .. و كانت تعنى بالشئون السياسية .
تلك في مصر و نرى صحيفة ( مرآة الأحوال ) التي أنشأها رزق الله حسون في الشام قد جعلت منبرا حرا للتعبير عن الفكر الثائر على نظام الحكم و كانت تستخدم الأسلوب السهل البسيط..( النثر السوري 90 ) ..
و أنشئت صحيفة ( الجوائب ) للأديب أحمد فارس الشدياق , و هي من أبرز الصحف التي صنفت من الطور الأول على الصعيد الأسلوبي الراقي خلافا للصحف المعاصرة لها كما سنعرض لذلك تاليا ..
مرت الصحافة بعدد من الأطوار , ظهرت فيها بأشكال و صيغ متباينة , و قد قسمها الأستاذ محمد يوسف نجم إلى أربعة أطوار في كل طور بيان أسلوبه و مدى تغيره .. :
الطور الأول : و ينعته الأستاذ نجم بـ ( المدرسة الصحفية الأولى) : و يمثلها كتاب الصحف الرسميون .. و قد امتدت حتى الثورة العرابية .. و من رواد هذه المدرسة ( رفاعة الطهطاوي ) . و لم يكن هذا الطور قوي الأسلوب متين العبارة عذب الألفاظ -كما في الطور الثاني-, بل كان ذا أسلوب فج بدائي قريب من عصر الانحطاط , يزهو بالسجع و المحسنات البديعية و الزخارف المتكلفة الممجوجة , و كانت الشؤون السياسية هي الموضوع الأساسي فيها (فن المقالة 65 ).. و يجدر بنا أن نستثني من ذلك صحيفة ( الجوائب ) التي نالت حظا من المتانة و الرصانة .( الحديث دراسات 17 )
الطور الثاني : المدرسة الثانية و منها بدأت مرحلة جديدة امتازت بالجنوح إلى التحلل من السجع و التقليل منه , و بذلك سعت إلى الاقتراب من الجمهور و العامة أكثر .. ( فن المقالة66 ) .. و قد تأثرت بدعوة جمال الدين الأفغاني , و من كتابها أديب إسحاق , محمد عبده و إبراهيم المويلحي . ( نص المتجدد 52.53)
الطور الثالث : تأثر بالنزعات الوطنية و الإصلاحية .. و كان يديرها أحزاب سياسية مناهضة للاحتلال .. و برز فيها الجانب السياسي و نال الحظوة فيها مما قلل من قيمة المقالة الأدبية ( فن المقالة 67) .. و قد ظهرت فيه طلائع المدرسة الصحافية الحديثة , من أمثال : لطفي السيد , طه حسين , إبراهيم المازني , و عباس العقاد .. ( نص النثرمتجدد52 ).
و تميز هذا الطور بتخلصه من قيود الصنعة و السجع , و تغليب الجانب المعرفي .. و كما يصفها محمد يوسف نجم : حمولتها من الأفكار و المعاني تفوق حمولتها من الزخرف و العبث البديعي ) – فن المقالة ص 67 – 68 – .
الطور الرابع : و هو المدرسة الحديثة التي بدأت مع الحرب العالمية الأولى .. و قد طغى الشأن السياسي عليها ..
و لا نغفل دور المجلات التي صدرت في ذلك العصر , كـ مجلة المقتطف و السياسة و الرسالة و البلاغ , التي خلقت لها رسما في تطور النثر , و من ذلك :
– تطويع اللغة و تهذيب أسلوب الكتابة بحيث يصبح أداة لنقل الأفكار الحديثة ( فن المقالة 77) , و المقالة التي هي نتاج الصحافة باتت أكثر صفاء و دقة , خاصة تلك التي تصدر عن المجلات .. ( متجدد51 )
الأسلوب الصحافي :
كان الأسلوب الصحفي في بداياته متفاوتا كما أشرنا , حتى بلغ من ترنحه أن وصل إلى استعمال العامية , كما عند عبدالله النديم في ( التنكيت و التبكيت ) .. فعاشت فترة بين العامية السوقية و التكلف اللفظي و السجع و الزخرفة المبتذلة .. و هو بذلك يزامن حينا من النزاعات الفنية بين القديم و الجديد , القديم في فصاحته و عروبيته و بدائيته و الجديد في أسلوبه و ثقافته المتأثرة بالغرب .. و نجد الأستاذ طه حسين يكتب معلقا عن هذا التنازع ( .. بينما كان نثر الشيخ محمد عبده مضطربا بين فصاحة النثر القديم و ركة النثر الحديث , مترددا بين حرية القدماء و رق المحدثين .. و رأينا المتأخرين المحافظين في النثر قد عمروا حتى أول هذا القرن , و لم يخلصوا من قيد السجع و البديع إلا بعد أن طغى عليهم سيل هذه النهضة الحديثة التي ظهرت عنيفة بعد الحرب الكبرى ) ( حافظ و شوقي 10 ) ..
التجربة الأدبية في الصحافة : و لا بد أن ننقب عن التجربة الفنية و الأدبية في الصحافة حتى نتنبه لحراكها و نستشرف ذلك الماضي و أثره على ما والاه .. فالمقالة الفنية التي تحمل صياغة أدبية في بداياتها كانت أقرب إلى الرسائل التقليدية يختلط فيها النثر بالشعر و يسعى أسلوبها سعيا حثيثا وراء المطابقة و المجانسة و الموازنة و السجع المرصع إلى سائر أنواع التنميق اللفظي فضلا عن الأخطاء و الألفاظ الحوشية و الدخيلة مع وجود ألفاظ عامية ( 184 السوري ) و نذكر مثالا على ذلك من مقالة في جريدة ( الفرات ) (.. منذ سنين جيش الجراد , قد استولى على هذه البلاد , و أوقع في الزرع الفساد , فقلت الذخائر, و فسدت الضمائر,. و غلت الأسعار, و اشتعلت البلاد نار ,فرطل الخبز المستكره اللون و الطعم, الذي هو عبارة عن ألف درهم ,غدى يباع بثمان و أحيانا بعشرة قروش و مع هذا قل ما يوجد في الأفران , فبتشريف حضرة دولتلو والي الولاية و وقوفه على هذه القضية قد أسرع بجلب الذخائر من المحلات اللازمة بواسطة التلغراف لاندفاع الغلاء الواقع, الذي ليس له دون الله من دافع .. ) و يظهر التكلف و التصنع جليا .. (حاشية 184) .
مرحلة الالتقاء بين الشرق و الغرب :
و في القرن التاسع عشر صدر أدب يشكل التقاء بين الشرق و الغرب , خاصة بعد نقل أجزاء من التراث الأوربي سواء في الصحف أو الكتب و الترجمة .. بذلك بدأت الموجة الغربية تواجه الموروث العربي القديم بما فيه من أدب و أساليب فصيحة فسعت الصحافة إلى التوفيق بين الثقافتين .. فنشرت القصص المترجمة التي عدت ضرورة صحفية ساهمت في تحرير النثر الصحف و غير الصحفي من أغلال الصنعة الموروثة عن عصور الانحطاط من زخرف بديعي و بهرجة لفظية , كما جنحت به إلى السهولة و الاهتمام بالمعاني و الدقة في التعبير .. ( الاتصال 343 )
و يصف طه حسين النثر في هذا العصر مقارنة مع الشعر بأنه ( جديد كله أو كالجديد .. و لم يكثر بين الكتاب الناثرين من تأثر بعيدالحميد الكاتب أو ابن المقفع أو الجاحظ , فإن وجد منهم من تأثر بهؤلاء الكتاب فقليلون , وتأثرهم ضيق محدود لا يلبث أن يزول و يقوم مقامه تأثر بكتاب آخرين ليسوا من العرب و آدابهم في شيء ) ص11 .
و رائع ما حكاه طه حين عن حال القديم و الجديد و ما اعترى الأساليب جراء النهضة و الصحافة : ( و حتى كان الجهاد بين القديم و الجديد قد تطور تطورا غريبا فأصبح أنصار القديم لا يستمسكون بركاكة الجبرتي و لا يحرصون على بديع ابن حجة و إنما يستمسكون بقديم بغداد و غيرها من أمصار البلاد العربية في العصر العباسي و يستمسكون بصحة اللفظ من الوجهة اللغوية و براءته من العامية و الابتذال , و أصبح أنصار الجديد لا ينفرون من البديع و البيان فقد استراحوا من البديع و البيان و إنما ينفرون من الإغراق في هذا الأدب العربي القديم و يطمحون إلى تقليد الأدب الغربي الحديث و اصطناع الألفاظ الأوربية الأعجمية .. ( 76 ) و كان السوريون أشد اعتناءً بالجديد و نصرة لمذهبه , و بعد الثورة ضد العثمانيين أخذت الصحف تندفع في حركتها السياسية و كان الشباب الذي اتصل بالغرب و أخذ عنه كثيرا من ثقافته هو قوة هذه الصحف .. و منها تحولت الكتابة من بيئة مخصوصة تتطلب درجة معينة من الثقافة و المعرفة إلى حق مشاع و بين الناس جميعا ..
و بعد الحرب العظمى التي ثار عقبها العرب ثورة سياسية كبيرة شغل الناس بالسياسة كثيرا .. و يرى الدكتور طه حسين أن الموجة السياسية العارمة التي حدثت قدمت الأدب بشكل جديد و قامت على استحداث مرحلة جديدة والحق أن السياسة تركت في النثر العربي آثارا لن تمحى قبل عصر طويل , جعلته حادا عنيفا و استحدثت فيه فنونا مختلفة و أساليب متباينة من الطعن و الخصومة لم يعرفها النثر العربي من قبل .. ثم لم تلبث السياسة نفسها أن استحدثت حياة أدبية جديدة في النثر ظهرت منذ حين و آتت ثمرا طيبا , و قد كان للخصومة الحزبية في مصر شرورها و آثامها لكن لها مصالحها و منافعها التي عادت على الأدب بشكل واضح .. فالمعارك الحزبية تضطر الأحزاب إلى التنافس في اكتساب الجمهور و الصجف أجلُّ الأدوات لهذا التنافس خطرا , فأخذت الصحف تنشر فصولا أدبية تقلد في ذلك صحف أوربا , و لكنها تخدع الناس و تستدرجهم إلى قراءة ما تكتب في السياسة , و ما هي إلا أن أصبحت الكتابة في العلم و الأدب نظاما تحرص عليه كل صحيفة .. و بات الجمهور لا يتقبل إلا الأدب بين طيات أي صحيفة.. فظهرت لدينا تلك المعارك الأدبية الصاخبة التي ترددت أصداؤها في كل مكان , و كانت تنبثق عن أحزاب سياسية , و هنا لفتة على ذلك … (78)
و لا ننسى أن الصحافة قدمت للأدب خدمة كبيرة إذ برز النقد الأدبي و زها عصره يوم تأججت الصراعات الأدبية , و أخذ يسير في التبلور محققا فتحا كبيراً في المشروع الأدبي الحديث و النقد أحد أهم روافد الأدب و أخص أسباب تطوره ..
يذكر الأديب الكبير عباس العقاد أن أسبوعا واحدا لم ينقض في صحيفته على غير كتاب ينقد أو قصيدة يتبع التعليق عليها أو خبر عن أديب مشهور في الثقافة الغربية يستحق الكتابة عن سيرته أو ذكراه أو مناقشة مذهبه و مذهب مدرسته في مسائل الفن و الفكر .. ( انا 92 ) ..
الكتاب التقليديون : وقع أسلوب التقليديين تحت وطأة التشبيه القديم و المثل و الموروث , و لكنهم في مواجهة التجديديين اتجهوا اتجاها كلاسيكيا جديدا يرجعون فيها إلى لغة ما قبل العصر العباسي أو إلى عصور الصحة و السلامة و البراءة من الفساد و العجمة و لكن هؤلاء الكتاب و منهم توفيق البكري غلبت على فنونهم الأدوات الموروثة من عهد بعيد ,, و كذلك السجع فقد بدا يتراجع تحت وطأة الهجوم المستمر ..
و لو نزعنا إلى الترجمة التي تكتنفها الصحافة سواء في القصص القصيرة المستوردة من الأدب الأوربي و خلافها نجد أن أثرها كان بارزا في توجيه لغة الأدب و إدخال جديد فيها حيث نجد الأفعال الأجنبية تتسرب إلى اللغة العربية كما كان من أثر الترجمة الصحفية استخدام أسلوب جديد لا علاقة له بالأدب , بل إن اللغة العربية قد استخدمت تراكيب جديدة مستمدة من طبيعة تعبير اللغات الأجنبية , و من ذلك شيوع استخدام الجمل الأسمية و تناثرها و كأنها و حدات مستقلة .. ( التال 352 )
المعارك الأدبية التي جرت في ساح الصحافة هي الأخرى أدت إلى حراك ثقافي مميز و تأججٍ في التنافس الأدبي , و من ذلك المعارك التي جرت بين العقاد و الرافعي , و طه حسين و إبراهيم المصري , و الزيات و طه حسين , و أبو الوفا و جماعة أبولو.. ( 80 سيد قطب ) .. و أرى أن المعارك الأدبية التي حدثت في ذلك العصر أضفت على الصعيد الثقافي مسحة براقة و الوانا صارخة و عنفوانا صاخبا و استحقت النظر في هذه الورقة لما اشتملت عليه هذه المعارك من جوانب مضيئة إذ روادها أدباء و علماء كبار , كما أنها طرقت مواضيع فكرية و أدبية و ثقافية مهمة بأسلوب أدبي رائع مبدع يعكس أوج التطور النثري و يصور لنا الإبداع البلاغي و يرصد ذروة الخلابة اللفظية التي تمتع بها رواد الأدب الحديث ( عباس محمود العقاد , مصطفى الرافعي , طه حسين , مصطفى لطفي المنفلوطي , أحمد حسن الزيات و آخرون ) .. و يكفي أن ننظر إلى أحد هؤلاء الأدباء لنعلم أي شيء بلغه الأدب بوسيلته ( الصحافة ) – محل دراستنا – ..
(انتهى)
المراجع : – تاريخ الأدب العربي – احمد حسن الزيات
– حافظ و شوقي – طه حسين – .
– النثر الأدبي الحديث في سوريا من القرن التاسع عشر حتى الاستقلال – د نشأة ظبيان –
– فن المقالة – محمد يوسف نجم –
– الأدب الحديث تاريخ و دراسات – د محمد بن سعد بن حسين –
– سيد قطب حياته و أدبه – عبدالباقي محمد حسين – .
– أدب المقالة في الحضارات الاتصالية – د عبدالعزيز شرف – .
– نص النثر المتجدد – د عبدالرزاق حسين – .
– أنا – عباس محمود العقاد – .
[بارك الله فيكي على الموضوع القيم والمميز
تحيتي
سلمت يداك زهرة
موضوع قيم وطرح مميزن25
لك كل الشكر والتقدير
تحيتي ومودتي
شكرا بنات منورات الموضوع
السلاااااااام عليكم زهره
فعلاااااااااااا موضوع غني في المعلومات المفيده
وهاذا ليس غريباااااااااااا عن زهره الجبل
فأنتي انسانه مثقفه وجامعيه وهادي المواضيع في مجال داستك فأنتي تخصصك الادب العربي وموضوعك يستحق التثبيت
السلاااااااام عليكم زهره
فعلاااااااااااا موضوع غني في المعلومات المفيده وهاذا ليس غريباااااااااااا عن زهره الجبل فأنتي انسانه مثقفه وجامعيه وهادي المواضيع في مجال داستك فأنتي تخصصك الادب العربي وموضوعك يستحق التثبيت |
شكرا ميوس دوم راقيه بردك ونظرتك بحبك احلا بنت خاله
معلومات قيمة عن الصحافة و أثرها في نهضة النثر العربي و تطوره
تسلم يمينك زهرة الجبل