الفرق بين الخلق والفطر
أولاً- الخلْق- في اللغة- هو الإيجاد الفعلي المبدأي ، على تقدير ورفق ، وترتيب وإحكام . وبعبارة أخرى هو الإيجاد الفعلي المبدأي وفق خصائص معينة ، تتطابق مع إرادة قاضية قاصدة ؛ ولهذا فهو يباشر مفعوله دفعة واحدة . وأصلُه : التقديرُ المستقيمُ . والتقدير هو تحديد كل مخلوق بحدِّه الذي يوجد به ، ولا يسمَّى خلقًا إلا بعد التنفيذ . فلا يقال : خلقتُ الشيء ، إلا إذا أوجدته بعد تقديره ؛ إما من غير أصل ولا احتذاء ؛ كقوله تعالى :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾(الأنعام: 1) . أو من أصل سابق ؛ كقوله تعالى :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ﴾(الذاريات: 49) . والأول لا يكون إلا لله تعالى ، بدليل قوله :﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾(الأعراف: 54) ؛ ولهذا قال سبحانه في الفصل بينه وبين غيره :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ﴾(النحل : 17) . ثم قال :﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾(النحل : 19) . وأما الثاني الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره ؛ كعيسى- عليه السلام- حين قال لبني إسرائيل :﴿ قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ ﴾(آل عمران: 49) .
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾(المؤمنون: 14) يدل على أنه يصح أن يوصف غير الله تعالى بالخلق ، قيل : إن هذا على تقدير ما كانوا يعتقدون ويزعمون أن غير الله سبحانه يبدع ويوجد ؛ فكأنه قيل : فاحْسَبْ أن ههنا مبدعين وموجدين ، فالله أحسنهم إبداعًا وإيجادًا ، على ما يعتقدون ، فنسبة الخلق إليهم من باب التجوز ؛ لأن الخلْق الحقيقي من صفات الله عز وجل التي لا يجوز أن تنسب لغيره من البشر . وعلى هذا القول جمهور أهل السنّة والجماعة ، واحتجوا عليه بقول المسلمين :« لا خالق إلا الله » . ولو كان الخلق عبارة عن التقدير ، لما صح ذلك ؛ لأن المعنى يؤول إلى أنه « لا مقدِّر إلا الله » ، وهذا غير صحيح . فثبت أن الخلق معناه : الإيجاد ، والخالق هو الله عز وجل الذي خلق كل شيء وأوجده بقدرته ، ولا خالق سواه ؛ كما قال سبحانه :﴿ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾(الرعد: 16) . وقوله سبحانه :﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾(الواقعة: 58- 59) .
ثانيًا- أما الفَطْرُ فهو إيجاد الشيء ابتداء ، وأصله في اللغة الشَّقُّ طولاً . يقال : فطر الشيء فهو فاطر ، والشيء مفطور . وذكر أبو العباس أنه سمع ابن الأعرابي ، يقول :« أنا أول من فطر هذا » . أي : أول من ابتدأه . ومنه قوله تعالى :﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾( الأنعام: 14) . أي : مبدعهما ابتداءً من لا شيء . وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال :« ما كنت أدري ما ﴿ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها . أي: أنا ابتدأت حفرها » .
وقال مؤمن ياسين :﴿ وَماليَ لا أَعْبُدُ الّذي فَطَرَني وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾( يس : 22) ، فعبَّر عن خلقه بقوله :﴿ فَطَرَني ﴾ ، ولم يعبِّر عنه بقوله :﴿ خَلَقَني ﴾ ؛ لأن الفَطْرَ أنسب في مقام الحِجَاج ، لإثبات إلهية الخالق ووحدانيته ، فهو الذي أوجده وأبدعه ، فكيف لا يعبد فاطره الذي فطر السموات والأرض ؟